“علّة” العقل البشري: الاستهلاك بلا منطق أو استمتاع يدمر عالمنا المدهش

بقلم – جورج مونبيوت، نُشر في الجارديان بتاريخ 2 أكتوبر/تشرين الأول 2014 وفي الموقع الشخصي للكاتب في اليوم نفسه.

ترجمة – عمرو خيري، بتاريخ 14 أكتوبر/تشرين الأول 2014.

هذه هي اللحظة التي يجب فيها على أي شخص قادر على التدبّر أن يتساءل ما الذي نفعله.

إذا لم تنبئنا أخبار السنوات الأربعين الماضية كيف خسر العالم أكثر من 50% من الفقاريات البرية (الثدييات، الطيور، الزواحف، البرمائيات، الأسماك) بأن هناك خطأ كبيراً في طريقة معيشتنا، فمن الصعب تخيل أي سبب آخر يمكنه أن يدفعنا للتدبر. من يمكن أن يتخيل أن نظاماً اجتماعياً واقتصادياً له مثل هذا الأثر هو نظام صحي؟ كيف تفكر في حجم هذه الخسارة ثم تصف ما حدث بأنه كان تقدماً؟

إنصافاً للعصر الحديث، فليس هذا أكثر من امتداد لتوجه دام لنحو مليوني سنة. إن خسارة الكثير من أشكال الحياة البرية الكبيرة الأفريقية – مثل السنوريات ذات الأسنان السيفية والضباع العملاقة والكلاب الدبيّة، والعديد من أنواع الأفيال – تزامنت مع تحول أسلاف البشر إلى أكل اللحوم. من الصعب تخيل سبب آخر لهذا النسق العجيب لانقراض تلك الكائنات.

ومع تدفقنا على قارات أخرى، انهارت الحياة البرية الكبيرة megafaunas في فترات قصيرة. لعل السبيل الأكثر مصداقية لتأريخ أول توافد للبشر على أي مكان، هو معرفة متى خسر ذلك المكان فجأة حيواناته كبيرة الحجم. إن البيئات الطبيعية التي نراها بكر وعلى حالتها لم تتبدل – مثل غابات الأمازون المطيرة أو الشعب المرجانية – هي في واقع الأمر خاوية، فلقد فقدت أغلب الحيوانات الضخمة التي كانت تسكنها، ما أدى إلى تغيرات كبرى في النظم الطبيعية.

ثم إننا مضينا في سبيلنا على امتداد سلسلة الغذاء، فتخلصنا من المفترسات الأصغر، والحيوانات العاشبة متوسطة الأحكام، والآن، ومن خلال تدمير البيئات الطبيعية والصيد، نتخلص من كل أشكال الحياة البرية من جميع الأنواع بغض النظر عن موقعها من سلسلة الغذاء. يبدو أن هناك علة ما في العقل البشري تمنعنا من الكف عما نفعل، علة تدفعنا نحو الاستمرار في الأخذ والمنافسة والتدمير، حتى مع غياب أي سبب للاستمرار.

لكن ما نشهده الآن أمر جديد؛ إذ أن سرعة التدمير أصبحت تفوق حتى مثيلتها في الأمريكتين منذ 14 ألف عام، عندما تبدل النظام البيئي لذلك النصف من الكوكب تحت وطأة عاصفة من الانقراض دامت لما لا يزيد عن بضع عشرات من الأجيال، وخلالها انقرضت أغلب الفقاريات الكبيرة.

يرى الكثير من الناس أن النمو السكاني هو السبب في هذه الظاهرة، ولا شك أنه عامل من العوامل. لكن هناك توجهان آخران تطورا بشكل أسرع وأبعد مدى. أولهما تزايد الاستهلاك، وثانيهما التكنولوجيا. كل عام تظهر مبيدات جديدة للآفات الزراعية وتكنولوجيات جديدة للصيد البحري وأساليب جديدة لاستخراج المعادن من باطن الأرض وتكنولوجيات جديدة لقطع الأشجار. إننا نشن حرباً ضروساً ضد العالم الحي، ويتزايد انعدام التكافؤ فيها بشكل مطرد.

لكن لماذا نحارب؟ إن الدول الغنية التي تحرك أغلب هذا الدمار من خلال ما تستورد لا يحتاج سكانها لأغلب تلك الموارد ولا علاقة لاستهلاكنا بالاحتياجات الإنسانية.

هذا هو أكثر شيء أفزعني: عدم التناسب بين ما نخسره وما نكسبه؛ النمو الاقتصادي في دولة تم بالفعل الوفاء باحتياجاتها الأساسية والثانوية، ثم تجدها تعكف على إنتاج المزيد من الأشياء عديمة الفائدة لترضي بها رغبات متهافتة.

على سبيل المثال، فالحاجة المبهمة غير مكتملة الصورة لتسلية الأصدقاء والزملاء (لا سيما من خلال ظاهرة الشخص الذي يرتدي ثياب سانتا كلوز ويمنح الهدايا في العيد) هي المحركة لاستهلاك آلاف الأطنان من المعدن والبلاستيك، والتي تتخذ عادة صورة مبتكرات إلكترونية معقدة هي ألعاب البالغين. قد يكون أثر مثل هذه الهدايا التسرية عن صاحبها دقيقة أو دقيقتين، ثم يرميها في خزانته. وبعد أسبوعين نادراً ما يستخدمها، ثم تجد طريقها إلى القمامة.

في مجتمع يخضع لقصف الإعلانات المستمر وتحركه مبادئ النمو، أصبحت المتعة هي “المتعة من أجل المتعة”، وأصبحت “المتعة من أجل المتعة” هي الاستهلاك. إننا نستخدم الاستهلاك كعلاج للملل، لنشغل به فراغاً تخلقه ثقافة عديمة المشاعر، تقبض على المرء لا تتركه، تحوله إلى فرد وحيد، في محاولة لبث شيئاً من اللون في هذا العالم الرمادي الذي ابتدعناه.

إننا لا نبالي بالأشياء التي نشتريها، ونتخلص منها سريعاً. لكن استخراج المواد الخام المطلوبة لإنتاجها، والتلوث الذي يؤدي إليه تصنيعها، والبنية التحتية والضوضاء وحرق الوقود المطلوب لنقلها، كلها عمليات تؤدي إلى تلويث العالم الطبيعي بشكل لا رجعة عنه. هذه عملية ثمنها أكبر بكثير من الأشياء التي ننتجها. خسارة الحياة البرية هي خسارة للدهشة والعجب، للسحر الذي يضفيه العالم الحي على حياتنا.

لعل من التضليل أن أقول إننا “نحن” من نفعل هذا كله. لسنا نحن من يفعله، إنما هو يُفعل فينا. من السمات الملحوظة للنمو الذي شهده العالم الغني في الآونة الأخيرة هو محدودية عدد الناس الذين استفادوا. كل المكتسبات تقريباً تذهب إلى قلة من الناس، إذ أكدت إحدى الدراسات أن أغنى 1% من سكان الولايات المتحدة أخذوا 93% من حجم زيادة الدخل الذي أدى إلى النمو. حتى في ظل معدلات نمو 2 أو 3% أو أكثر، فإن ظروف العمل الخاصة بأغلب الناس مستمرة في التدهور، مع تزايد ظاهرة العمل بعقود قصيرة، دون حقوق توظيف كاملة، ودون إحساس بالأمن أو توفر المعاش، كما أتيح لأهلنا من قبلنا.

ساعات العمل تزيد، والأجور كما هي لا تتغير أو هي تتناقص، ومهام العمل تزيد بلادة ومللاً وضغطاً على الأعصاب، وتزيد صعوبة الوفاء بها.. رسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية والطلبات اللانهائية تتصايح داخل رؤوسنا، تمنع عنّا القدرة على التفكير. المساحات تتضاءل والظروف تتدهور وثمن السكن أصبح من شبه المستحيل توفيره. النقود التي تُنفق على الخدمات العامة أصبحت أقل. ما هذا النمو ولمن هو؟

إنه للناس الذين يديرون بنوكنا ويملكونها، لصناديق الاستثمار، لشركات استخراج المعادن من باطن الأرض، لشركات الإعلان، لصناع الأسلحة ولمحترفي البورصة، للمباني الإدارية ذات الشركات وضياع الريف الكبيرة والحسابات البنكية في الخارج. أما من تبقى منّا غير هؤلاء، فهم مجلوبون على النظر لهذا النمو بصفته ضرورة وأمر مرغوب، من خلال نظام تسويق وتذويق مكثف وشامل وكامل لدرجة أنه يرقى لمصاف غسيل العقول.

هو نظام يجعلنا أقل سعادة، وأقل إحساساً بالأمان.. نظام يضيق علينا حياتنا ويُفقرها، يُقدم لنا بصفته الحل الوحيد لمشاكلنا. لا يوجد بديل، علينا أن نستمر في السير على حافة تلك الهاوية. أي شخص يشكك في النظام إما يتم تجاهله أو التشكيك فيه.

والمستفيدون؟ إنهم كبار المستهلكين، الذين يستغلون ثرواتهم الرهيبة في التدمير بوتيرة تتجاوز أضعاف قدرة الإنسان العادي عليه. أغلب العالم الطبيعي يُدمر حتى يتمكن كبار الأثرياء من تعبئة يخوتهم بخشب الماهوجني، وحتى يأكلون سوشي التونة ذات الزعنفة الزرقاء، وحتى ينثرون قرون الخراتيت المسحوقة على طعامهم، ولتحط طائراتهم الخاصة على مهابط رُصفت وسط مراعي العشب، ويحرقون في اليوم الواحد من الوقود متوسط ما يستهلكه المواطن في أي مكان في العالم خلال عام.

وهكذا تمضي قدماً عملية “ورنشة” العالم الكبير، ليبلى معها سطح الأرض.. عملية تخلص العالم من كل ما هو مميز أو فريد، سواء في الثقافة البشرية أو في الطبيعة، وتحولنا إلى تروس قابلة للاستبدال في ماكينة قوة العمل العالمية المتجانسة، وتحول ثراء العالم الطبيعي إلى صورة من الأبيض والأسود تخلو من أي جمال.

 إذا لم تكن هذه هي اللحظة التي يجب أن نصرخ فيها كفى فمتى إذن؟ إنها اللحظة التي يجب أن نستخدم فيها تعليمنا الممتاز وخبراتنا الكبيرة في الإعداد لتغيير طريقة تنظيمنا لأنفسنا، ولنعترض ونعكس مسار التوجهات الحاكمة لعلاقتنا بالكوكب الحي، وهي التوجهات القائمة منذ مليوني سنة، وهي أيضاً التوجهات التي تدمر الآن ما تبقى منه بسرعة مذهلة. أليست هي اللحظة التي يجب أن نعترض فيها صيرورة النمو الأبدي على حساب كوكب محدود الوارد؟ إن لم تكن الآن فمتى؟

.