دروس باردة من الربيع العربي

كتب –  ديفيد ماك لموقع “معهد الشرق الأوسط
ترجمة – نصر عبد الرحمن

أشعل بائع خضراوات يائس النار في جسده يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، فاندلعت سلسلة من الاحتجاجات مُطالبة بالكرامة والحياة الكريمة، وشهد العالم العربي اضطرابات واسعة على مدار السنوات الأربع الماضية، ولم تصل إلى نهاية واضحة بعد. لقد مرت البلاد العربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأكثر التجارب التي واجهتها حدة وأهمية منذ حقبة الاستعمار والاستقلال التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.

ومن الطبيعي أن يرغب الأمريكيون في رؤية شعوب تنجح في التحرر من سطوة الحكم الشمولي، إلا أن المُطالبات بالتغيير السريع؛ والتي تبدأ بنزعة مثالية طاغية، عادة ما تنتهي نهاية غير حميدة، كما حدث من قبل في روسيا في مطلع القرن العشرين. وينطبق الأمر كذلك على فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر، حيث قد لا تظهر النتائج الإيجابية إلا بعد عدة عقود من الدمار وسفك الدماء.

واجهت الدول العربية مهمة شاقة نظراً لما طال مؤسساتها من جمود سياسي استمر لفترة طويلة. وها نحن في العام الخامس من عملية تغيير كبيرة، يمكن أن يستخلص الجمهور الأمريكي، ورجال السياسية الأمريكيون دروساً هامة عن مغزى ما يحدث. والدروس التالية لا تنفي وجود دروس أخرى.

أولاً: عصفور واحد لا يصنع ربيعاً. لقد أصدرت النُخب العربية والعربية الأمريكية، ووسائل الإعلام العربية والكثير من الخبراء الأكاديميين في شؤون الشرق الأوسط أحكاماً مُسبقة بشأن قدرة الثورات الليبرالية العربية على الاستمرار، وتحقيق أهدافها. ولكن سرعان ما توقف التصفيق والتهليل حتى ينقشع الغبار.

ثانياً: تحقيق الديمقراطية عملية صعبة. بعد نهاية الهيمنة البريطانية على 13 مستعمرة عام 1779، استغرق الأمر سبع سنوات حتى تم إجراء انتخابات لاختيار قادة محليين في تلك المستعمرات. وتمكن الآباء المؤسسون لأمريكا من القيام بهذا عبر التغاضي عن بعض الخلافات من أجل التوصل إلى تسوية. وبعد سبعين عاماً، شهدت بلدنا حرباً أهلية رهيبة من أجل تسوية بعض تلك الخلافات حول الديموقراطية، وما زلنا نكافح حتى الآن من أجل اتحاد فيدرالي أكثر تماسكاً. ولم يكن على أحد أن يتوقع نجاحاً سريعاً لتجارب مماثلة في الدول العربية؛ ذات التجربة التاريخية الهزيلة في الحكم الذاتي. ويجب أن تكون التسويات، خاصة التي تكتنفها الفوضى، جزءً من عملية التوصل إلى حالة من التوازن الديمقراطي والتعددي.

ثالثاً: تؤدي الإطاحة المُفاجئة بالنظم الاستبدادية في الغالب إلى حالة من الاضطراب قد تصل إلى حد الفوضى. وأقتبس هنا أبياتاً من قصيدة للشاعر ويليام باتلر ييتس، التي كتبها في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

تداعت الأشياء؛ وكاد عقد المركز
أن ينفرط؛
انطلقت الفوضى من عقالها لتجتاح العالم.
وارتفع فيضان الدم، فأغرق
الأبرياء في كل مكان؛
وافتقد الحكماء القدرة على الإقناع
بينما استبدت الأهواء بالحمقى.

وقبل أن يثق الغرب في صيغة قد تتبناها إحدى الحكومات العربية، عليه أن يتذكر تاريخ الأمم التي نفترض أنها دول متقدمة في أوروبا أثناء القرن العشرين. حيث أن عمليات التغيير التدريجية تنتهي بنتائج ملموسة، رغم أنها لا تحظى باهتمام الإعلام، ولا ترضي الطموح الرومانسي.

رابعاً: لقد اعتمدت تجارب كل دولة عربية مرت بهذه الأحداث، بشكل مختلف، على خليط من مؤسساتها القائمة، والعوامل التي دفعت الشعوب للمطالبة بالتغيير، ومدى استجابة النظام لهذه المطالبات. والأكثر من هذا، هو حدوث هذا التغير السياسي السريع في ظل وجود أزمات عرقية أو طائفية حادة، أو واكب انهياراً اقتصادياً ليس من شأنه أن يُفضي إلى ديموقراطية معتمدة على الانتخابات. وتعتبر العراق، وسوريا، ومصر، واليمن، والبحرين أمثلة واضحة على هذا.

خامساً: الشرعية صعبة المنال، وقد تكون هشة. لم يكتسب إبراهيم السامرائي شرعية لدى المسلمين عندما قام بتغيير اسمه إلى أبو بكر البغدادي، وأعلن نفسه خليفة لدولة إسلامية. والآن، لم تعد مملكته تتوسع، فهل يستطيع توفير حياة أفضل للعرب السنة الذين يعيشون شمالي ما بين النهرين؟ سيكون الأمر صعباً جراء الشتاء البارد في الموصل والرقة، كما يبدو أن المستويات المعيشية في انخفاض. كما لا يضفي الفوز في الانتخابات شرعية تلقائية على حزب سياسي بعينه في الديمقراطيات العربية الوليدة. فهناك تحديات أخرى لاكتساب الشرعية؛ مثل توفير الأمن والخدمات الأساسية، وخلق ظروف مواتية للنمو الاقتصادي وتوفير الوظائف على نحو فعال، واحترام حقوق الإنسان.

سادساً: أهمية المؤسسات. تدفع ليبيا اليوم، ما بعد القذافي، ثمن غياب المؤسسات الحكومية وعدم وجود المجتمع المدني. وتتمتع تونس ومصر بوجود مؤسسات متماسكة، حتى وإن كانت فاسدة في الغالب، أو في حاجة إلى عملية إصلاح. ولسوء حظ مصر، تهيمن المؤسسة العسكرية على بقية المؤسسات لدرجة تعوق التقدم السياسي والإصلاح الاقتصادي.

سابعاً: التاريخ والدين أمور حساسة.  لم تمر دولة عربية واحدة بتجربة شبيهة بتجربة التنوير الأوروبي في نهاية القرن الثامن عشر. أوروبا الآن في طور “ما بعد المسيحية” من عدة جوانب، كما قال فريدريك نيتشه: “لقد مات الإله، ونحن من قتلناه”. لم تعد المعتقدات والقيم الدينية من القوى المُؤثرة في الواقع، أو تمثل قيداً على السلوك البشري؛ وترتب على ذلك عدة نتائج مُختلطة. فلم تعد هناك حروب دينية في أوروبا، رغم إمكانية استغلال تبريرات دينية من جانب الحكومات ورجال السياسة الطموحين لأفعالهم وسلوكياتهم. إلا أن جشع أوروبا واعتمادها سياسة القوة، أدى إلى محاولات للهيمنة على العالم بالقوة وعن طريق الاستعمار. ومنذ مائة عام تقريباً، أدى التنافس العلماني الأوروبي إلى حربين عالميتين ومحرقة. وعلى العكس من هذا، لا يزال الدين قوة فاعلة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويمكن للتعصب أن يتغلب على الدوافع الأخلاقية لدى أصحاب الديانات السماوية الثلاث. ونتمنى أن تكون القيم الدينية أحد مكونات التغيير الإيجابي بمرور الوقت.

ثامناً: ليس لدى الولايات المتحدة الأمريكية حلولاً سحرية لهذه المشاكل. تختلف ثقافتنا وخبرتنا التاريخية عن الدول العربية تماماً، كما أن ما نتسم به من نفاذ الصبر لا يُتناسب مع العمليات الطويلة لبناء الأمم. لقد اتضح هذا في مطلع القرن الحادي والعشرين في العراق؛ حيث لم تثمر الجهود الأمريكية الكبيرة سوى عن القليل من أجل وضع هذا البلاد المحوري على طريق الاستقرار السياسي. ولا يعني هذا ألا تسهم الولايات المتحدة في العملية السياسية التي تجري في العالم العربي، ولكنها مجرد محاولة للتواضع.

ديفيد ماك، هو النائب السابق لمساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى (1993-1991)، كما كان سفير الولايات المتحدة لدى دولة الإمارات العربية المتحدة (1989-1986). ومن بين مهامه الدبلوماسية العمل في العراق، والأردن، والقدس، ولبنان، وليبيا، وتونس، والمملكة العربية السعودية. ماك لديه خبرة واسعة ومعرفة بشؤون العراق وليبيا والإمارات العربية المتحدة. ويعلق أيضا على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وأمن منطقة شبه الجزيرة العربية والخليج الفارسي.

فكرة واحدة على ”دروس باردة من الربيع العربي

  1. تعقيب: دروس باردة من الربيع العربي - ساسة بوست

.